اقتصادمال و أعمال

هل يمكن لسوريا تمويل التنمية وإعادة الإعمار من دون الاعتماد على القروض الدولية؟

في مرحلة ما بعد التحرير، تقف سوريا أمام اختبار اقتصادي بالغ التعقيد، عنوانه الأبرز كيفية تمويل التنمية وإعادة الإعمار في ظل دمار واسع للبنية التحتية وتراجع حاد في الموارد والإيرادات، وبين دعوات الاعتماد على الإمكانات الذاتية حفاظًا على السيادة الاقتصادية، وطرح خيار الاستدانة الخارجية كحل سريع لتأمين التمويل، تتكاثر التساؤلات حول جدوى كل خيار وكلفته ومخاطره على المدى القريب والبعيد، فهل تستطيع سوريا النهوض بإمكاناتها الداخلية وحدها؟ أم أن القروض الدولية باتت خياراً لا مفر منه؟ وأي طريق يبدو أكثر واقعية في ظل الظروف الحالية؟

يرى الباحث الاقتصادي يحيى السيد عمر أن الاستدانة بحد ذاتها ليست خياراً سلبياً إذا جرى التعامل معها بحذر وحسابات دقيقة، فالقروض الدولية تتيح تأمين موارد مالية كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، ما يساعد على إطلاق مشاريع حيوية في قطاعات البنية التحتية والكهرباء والصحة والتعليم، كما أن المؤسسات المالية الدولية تمتلك خبرات تقنية وإدارية في متابعة المشاريع، الأمر الذي قد يحد من بعض المخاطر التشغيلية ويعطي إشارات إيجابية للأسواق والمستثمرين.

ويضيف السيد عمر، خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا أنه يمكن لسوريا أن تستدين بطريقة آمنة نسبيًا في حال جرى ربط القروض بمشاريع استراتيجية محددة قادرة على توليد عوائد اقتصادية مستدامة، مثل مشاريع الطاقة، الموانئ، وشبكات النقل، بما يضمن قدرة الدولة على السداد من دون تحميل الأجيال المقبلة أعباءً إضافية.

على الضفة المقابلة، يوضح السيد عمر أن التمويل المحلي يمنح الدولة هامشًا أوسع للتحكم في أولويات الإنفاق والحفاظ على استقلال القرار الاقتصادي، ويمكن تعزيز هذا المسار من خلال تحسين جباية الضرائب، تحفيز الاستثمار المحلي، دعم القطاع الخاص، والاستفادة بشكل أفضل من الموارد الطبيعية، إضافة إلى توجيه الإنفاق نحو المشاريع الأكثر أولوية وتقليل الهدر.

غير أن الاستغناء الكامل عن القروض الدولية يبدو خيارًا محدود الإمكانات في المرحلة الراهنة، إذ يعاني الاقتصاد السوري من ضعف القدرة الإنتاجية، انخفاض الاحتياطات النقدية، وتراجع ثقة المستثمرين. ويرى الباحث أن الاعتماد الحصري على الموارد الداخلية قد يؤدي إلى إبطاء وتيرة إعادة الإعمار، وترك قطاعات خدمية وبنى تحتية أساسية من دون تمويل كافٍ، بما يفاقم المخاطر الاجتماعية والسياسية.

بحسب السيد عمر، فإن الخيار الأكثر واقعية يتمثل في اعتماد إستراتيجية تمويل مختلطة تجمع بين الموارد المحلية والقروض الدولية المدروسة، ويقضي هذا النهج بتوجيه القروض الخارجية نحو مشاريع إنتاجية طويلة الأمد ذات مردود اقتصادي واضح، مثل الطاقة والبنية التحتية والصناعة، في مقابل تمويل الخدمات الاجتماعية والاحتياجات الأساسية من الموارد المحلية.

هذا التوازن، وفق الباحث، يسهم في تقليل مخاطر المديونية الخارجية، ويحافظ في الوقت نفسه على قدر معقول من السيادة الاقتصادية، مع ضمان استمرار عجلة إعادة الإعمار والتنمية من دون توقف.

يحذر السيد عمر من أن القروض الدولية غالباً ما تأتي مشروطة بسياسات اقتصادية صارمة، قد تشمل إجراءات تقشفية، تقليص الدعم الاجتماعي، أو إعادة هيكلة قطاعات حساسة، ما قد ينعكس سلبًا على الفئات الأكثر ضعفًا. كما أن الاعتماد المفرط على القروض الخارجية يرفع حجم الدين العام، ويقيد هامش القرار الاقتصادي والسياسي، ويجعل التعافي أكثر هشاشة أمام الأزمات العالمية وتقلبات الأسواق.

ويضيف أن أي سوء إدارة أو غياب للشفافية في استخدام القروض قد يضعف الثقة الدولية، ويؤثر سلبًا في فرص جذب الاستثمارات مستقبلًا، ما يزيد كلفة التعافي بدل أن يخففها.

تبدو قدرة سوريا على تمويل إعادة الإعمار والتنمية من دون أي لجوء إلى القروض الدولية المحدودة في الظروف الراهنة، كما أن الاعتماد الكامل على الاستدانة الخارجية ينطوي على مخاطر كبيرة تهدد السيادة والاستقرار الاقتصادي، وبين هذين الخيارين، يبرز التمويل المختلط كحل وسط أكثر توازنًا، شريطة أن يقترن بالشفافية، وحسن إدارة الموارد، وربط القروض بمشاريع منتجة تخدم المواطن بشكل مباشر. فنجاح إعادة الإعمار لا يتوقف فقط على حجم الأموال المتاحة، بل على كيفية إدارتها وتوجيهها لبناء اقتصاد مستدام يخفف أعباء المستقبل بدل أن يراكمها.

المصدر: تلفزيون سوريا

زر الذهاب إلى الأعلى